سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


قلت: {إذا}: العامل فيه محذوف، دلّ عليه: {لفي خلق جديد}. و{مُمَزَّقٍ}: مصدر، أي: تجددون إذا مزقتم كل تمزيق، و{جديد}: فعيل بمعنى فاعل، عند البصريين. تقول: جَدَّ الثوب فهو جديد، أو بمعنى مفعول، كقتيل، من جد النساج الثوب: قطعه. ولا يجوز فتح {إنكم} للاّم في خبره. و{أَفْترى}: الهمزة للاستفهام، وحذفت همزة الوصل للآستغناء عنها.
يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا} من منكري البعث: {هل نَدلُّكم على رجلٍ} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، {يُنَبئُكم إِذا مُزِّقْتمْ كلَّ مُمزَّقٍ إِنكم لفي خلقٍ جديدٍ} أي: يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق، {افْترَى على الله كذباً} أي: أهو مفترٍ على الله كذباً فيما يُنسب إليه من ذلك؟ {أم به جِنَّة} جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب: بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم. وكأنه قيل: أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
قال تعالى: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلالِ البعيدِ} أي: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد؛ لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي؛ لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
{أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفَهُم من السماءِ والأرض إِن نشأ نَخْسِفُ بهم الأرضَ أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء} أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما أينما كانوا، وحيثما ساروا، وجدوهما أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه، من ملكوت الله، ولم يخافوا أن يخسفَ الله بهم في الأرض، أو يسقط عليهم {كِسفاً} قطعة، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات، وكفرهم بما جاء به الرسول، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي {يخسف}، و {يسقط} بالياء؛ لعود الضمير على {الله} في قوله: {أَفترى على الله}، وقرأ حفص: {كَسَفاً} بالتحريك، جمعاً.
{إِن في ذلك لآيةً} إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما، وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق، {لكل عبدٍ مُّنِيب} راجع بقلبه إلى ربه، مطيع له تعالى، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، فيعتبر، ويعلم أن مَن قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام، قادر على إحياء الأموات وبعثها، وحسابها وعقابها.
الإشارة: يقول شيوخ التربية: بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة: هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة وهي حياة الروح بمعرفة الله في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان، احتجاجاً على ما منح محمد عليه الصلاة والسلام من الرسالة والوحي، ردًّا لقولهم: {أَفترى على الله كذباً}، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره.


قلت: {يا جبال}: بدل من {فضلاً}، أو يقدر: وقلنا. و{الطير}: عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولقد آتينا داودَ منا فضلاً} أي: مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو: فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا: {يا جبالُ أوّبي معه} رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه: أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح؛ جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب، أي: الترجيع، وقيل: من الإياب بمعنى الرجوع، أي: ارجعي معه بالتسبيح. {والطيرَ} أي: أوبي معه، أو: وسخرنا له الطير تؤوب معه. قال وهب: فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم.
قال القشيري: يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام: كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال: يا رب؛ وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. اهـ. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله: {يا جبال أوبي معه} من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء؛ الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال: آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير؛ لم يكن فيه هذه الفخامة.
{وألنّا له الحديدَ} أي: جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل: سبب لينه له: أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه: ما يقول الناس في داود؟ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال: نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه: يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح.
ويقال: كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل: كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت: ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطىء على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد. اهـ.
وقيل: لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة.
وأمرناه {أنِ اعمل سَابِغاتٍ} أي: دروعاً واسعةً تامة، من: السبوغ، بمعنى الإطالة، {وقدِّر في السَّردِ} لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق، أو تؤذي لابسها. والتقدير: التوسُّط في الشيء، والسرد: صنعة الدروع، ومنه قيل لصانعه: السراد والزراد. {واعملوا صالحاً} شكراً لما أسدي إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح: ما يصلح للقبول؛ لإخلاصه وإتقانه، {إِنِّي بما تعملون بصير} فأجازيكم عليه.
الإشارة: الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه. أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك. ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي: تنقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى: {وأَلَنَّا له الحديدَ} في الظاهر: الحديد الحسي، وفي الباطن: القلوب الصلبة كالحديد، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي. ويقال له: أن اعمل سابغاتٍ، أي: دروعاً تامة، يتحصّن بها من الشيطان والهوى، وهو ذكر الله، يستعمله ويأمر به، ذكراً متوسطاً، من غير إفراط ممل، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه، فيؤمر بالشكر، وهو قوله: {واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير} والله تعالى أعلم.


قلت: {الريح}: مفعول بمحذوف، أي: وسخرنا له الريح، ومَن رفعه؛ فمبتدأ تقدّم خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: {و} سخرنا {لسليمانَ الريحَ} وهي الصبا، {غُدُوُّها شهرٌ ورَوَاحُهَا شهرٌ} أي: جريها بالغد مسيرة شهر، إلى نصف النهار، وجريها بالعشي كذلك. فتسير في يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق، مكان داره، فيقيل بإصطخر فارس، وبينهما مسيرة شهر، ويروح من إصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل: كان يتغذّى بالريّ، ويتعشّى بسمرقند. وعن الحسن: لَمَّا عقر سليمان الخيل، غضباً لله تعالى، أبدله الله خيراً منها الريح، تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. اهـ.
قال ابن زيد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت معه، فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت: وقد تقدّم أن العاصفة هي التي ترفعه، والرخاء تسير به، وهو أصح. ثم قال: فتقيل عند قوم، وتُمسي عند قوم، وبينهما شهر، فلا يدري القوم إلا وقد أظلّهم، معه الجيوش.
ويُروى أن سليمان سار من أرض العراق، فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ، تحمله الريح، وتظله الطير، ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم سار به إلى أرض الصين، ثم عطف يُمنة على مطلع الشمس، على ساحل البحر، حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياماً، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى اليمن، وكان مستقره بها بمدينة تدْمُر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح، والعُمد، والرخام الأبيض والأصفر. اهـ.
قلت: وذكر أبو السعود في سورة ص أنه غزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وغيرهما، والله تعالى أعلم. ووُجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السلام:
وَنَحْنُُ ولا حَوْلَ سِوََى حَوْلِ رَبّّنا *** نَرُوحُ إلى الأَوْطَانِ من أرضِ كسْكَر
إذ نَحْنُ رُحْنا كان رَيْثُ رَوَاحنا *** مسِيرة شهرٍ والغدو لآخرِ
أُناسٌ أعزَّ اللهُ طوعاً نفوسَهُم *** بنصر ابن داودَ النبيِّ المُطَهَّر
لَهُمْ في مَعَالِي الدِّين فَضْلٌ ورفعةٌ *** وإن نُسِبُوا يوماً فَمِنْ خَيْر مَعْشَر
متى يركب الريحَ المُطِيعةَ أسرَعَتْ *** مُبَادِرةً عن شهرهَا لم تُقَصِّر
تُظِلُّهُم طيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ *** مَتى رَفْرَفَتْ مِن فوقِهِمْ لمْ تُنْفرِ
قال القشيري: وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه، فمال الريحُ، فقال له: استوِ، فقال له ما دمت أنت مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً لك، فحيث مِلْتَ مِلتُ. اهـ.
ثم قال: {وأسَلْنَا له عينَ القِطْرِ} أي: معدن النحاس. والقطر: النحاس، وهو الصُفر، ولكنه أذابه له، وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، كما يسيل الماء.
وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب. وقيل: القطر: النحاس والحديد، وما جرى مجرى ذلك، كان يسيل له منه عيون. وقيل: ألانه كما ألان الحديد لأبيه، وإنما ينتفع الناسُ اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان، كما قيل.
{و} سخرنا له {من الجنِّ من يعملُ بين يديه} ما يشاء {بإِذنِ ربه} أي: بأمر ربه، {ومن يزغْ منهم عن أمرنا} أي: ومَن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان {نُذقه من عذاب السعير} عذاب الآخرة. وقيل: كان معه ملك بيده سوط من نار، فمَن زاغ عن طاعة سليمان ضربه بذلك ضربة أحرقته.
{يعملون له ما يشاءُ من محَاريبَ} أي: مساجد، أو مساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. {وتماثيلَ} صور الملائكة والأنبياء، على ما اعتادوا من العبادات، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم. صنعوا له ذلك في المساجد، ليجتهد الناس في العبادة. أو: صور السباع والطيور، رُوي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كُرسيه، ونسْريْن فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسطَ الأسدان له ذرَاعيهما، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحاً. {وجِفانٍ} وصحاف، جمع: جفنة، وهي القصعة، {كالجَوَاب} جمع جابية، وهي الحياض الكبار. قيل: كان يقعد على الجفنة ألف رجل، يأكون بين يديه، {وقدور راسياتٍ} ثابتات على الأثافي، لا تنزل؛ لِعظمها، ولا تعطل؛ لدوام طبخها. وقيل: كان قوائمها من الجبال، يصعد إليها بالسلالم، وقيل: باقية باليمن.
وقلنا: {اعملوا آلَ داودَ شُكراً} أي: اعملوا بطاعة الله، واجهدوا أنفسكم في عبادته، شكراً لِما أولاكم من نعمه. قال ثابت: كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يُصلّي. اهـ.
وقال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه، فعالجها، فلم تنفتح، حتى قال: بصلوات آل داود إلا فُتحت الأبواب، ففتحت، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل؛ خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزّ وجل يُعبد فيها. اهـ. وعن الفضيل: {اعملوا آل داود} أي: ارحموا أهل البلاء، وسلوا ربكم العافية.
و{شكراً}: مفعول له، أو حال، أي: شاكرين، أو مصدر، أي: اشكروا شكراً؛ لأن {اعملوا} فيه معنى اشكروا، من حيث إن العمل للنعم شكرٌ، أو: مفعول به، أي: إنَّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكراً.
{وقليل من عباديَ الشكورُ} يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السلام، أو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم.
والشكور: القائم بحق الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شُغل به بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً. وعن ابن عباس: هو مَن يشكر على أحواله كلها. وقيل: مَن شكر على الشكر، ومَن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي: لأن توفيقه للشكر نعمة، فتقتضي شكراً آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور مَن يرى عجزه عن الشكر. اهـ.
الإشارة: وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود: اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد: الشكر: بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً: الشكر ألا يُعصى الله بنعمه.
والشكر على ثلاثة أوجه: شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب: أن يعتقد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان: الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح: أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم: ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل: فما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل: فما شكر اليدين؟ قال: ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] الآية، قيل: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. اهـ.
والناس في الشكر درجات: عوام، وخواص، وخواص الخواص. فدرجة العوام: الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص: الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص: أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال: هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا. اهـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال: فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل؟ ثم قال: ويقال في {قليل من عبادي الشكور}: قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم: (مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها). فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8